تغير بعض الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة
"لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان":
ويقصد بهذاه القاعدة الفقهية، أن يراعي
الناظر في النوازل عند اجتهاده، تغيّر الواقع المحيط بالنازلة، سواءً كان تغيرا
زمانيا أو مكانيا، أو تغيرا في الأحوال والظروف، وعلى الناظر تبعا لذلك، مراعاة هذا
التغير في فتواه وحكمه.
وذلك أن كثيرا من الأحكام
الشرعية الاجتهادية، تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية؛ فالأحكام
تنظيمٌ أوجبه الشرع، يهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد، فهي ذات
ارتباط وثيق بالأوضاع ،والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة، فكم من حكم كان تدبيرا
أو علاجا ناجحًا لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصِل إلى المقصود
منه، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق.
ومن أجل هذا أفتى الفقهاء
المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية، في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة
مذاهبهم، وفقهاؤهم الأولون، وصرّح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم، هو اختلاف الزمان والمجتمعات، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين
من فقهاء مذاهبهم، بل لو وُجِدَ الأئمة الأولون في عصر المتأخرين، وعايشوا اختلاف
الزمان وأوضاع الناس، لعدلوا إلى ما قال المتأخرون. وعلى هذا الأساس أسست القاعدة
الفقهية القائلة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان».
ومن أمثلة هذه القاعدة:
جواز إغلاق أبواب المساجد
في غير أوقات الصلاة في زماننا، مع أنه مكان للعبادة ينبغي أن لا يغلق، وإنما
جُوِّزَ الإغلاق صيانة للمسجد من السرقة والعبث.
كذلك فتوى المتأخرين بتضمين الساعي بالفساد
لتبدل أحوال الناس مع أن القاعدة: «أن الضمان على المباشر دون المتسبب»، وهذا لزجر المفسدين.
إلى غيرها من الأمثلة
الكثيرة التي غيّر فيها الأئمة المتأخرون كثيرًا من الفتاوى، بسبب تغير الأزمنة
واختلاف أحوال الناس.
يقول ابن القيم ـ رحمه
الله ـ في فصل تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات
والعوائد: «هذا فصل عظيم النفع جدا، وقد وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة،
أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي
في أعلى مراتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح
العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت
من العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن المصلحة إلى المفسدة ومن الحكمة إلى
العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل».
ولعل هذا النص النفيس
للإمام الجليل ابن القيم ـ رحمه الله ـ يكون منارا لأهل النظر والاجتهاد يهتدون به
في بحثهم واجتهادهم، من أجل أن يراعي المجتهد أو المفتي أثناء اجتهاده ونظره
الظروف العامة للعصر والبيئة والواقع المحيط بالناس، فربَّ فتوىً تصلح لعصر ولا
تصلح لآخر، وتصلح لبيئة ولا تصلح لأخرى، وتصلح لشخص ولا تصلح لغيره، وقد تصلح لشخص
في حال، ولا تصلح له نفسه في حال أخرى.
وقد ركز العلماء على التنبيه
لأمرين يجب تجنبهما، قد يشكلان مدخلاً خفياً وخطأً دقيقاً
قد يحصل للبعض وهما:
ـ الميل بالناس إلى
التيسير والتخفيف، دون اعتبار لمقاصد الشريعة وقواعدها العامة:
بناء على أن هذا التخفيف هو
الأصلح لأحوال الناس في هذا العصر، بسبب انصرافهم بمغريات الحياة عن الالتزام
بأحكام الدين، فكان من المتعين تقريب هذا الدين إلى تلك النفوس ، وتأليف هذه
القلوب، كيما تنشط لقبول أحكام الشريعة والإقبال عليها. خاصة أن القول بالتيسير
والأخذ بهذه الرخصة أو تلك، لا بد أن يوجد له مستند ما يؤيده ويعزز اتباعه؛ من نص
مأثور أو دليل شرعي آخر معتبر.
ـ الميل بالناس إلى التشديد والمنع دون اعتبار لمقاصد الشريعة وقواعدها العامة:
بناء على أن ذلك هو
الأحوط، وهو الأصلح لأحوال الناس الذين غلب عليهم التساهل والتفريط في الأخذ
بعزائم الشريعة، مما قد يفضي في المآل إلى الانسلاخ الكامل من أحكام الدين.
المراجــــــــــــع:
شرح القواعد الفقهية. أحمد بن محمد الزرقا: 227
قواعد ابن رجب ، القاعدة: 127. 2/597
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن قيم الجوزية:
162
إعلام الموقعين: 3/11.
مشاركات قد تهمك من المدونة:
تعليقات
إرسال تعليق