نفحات إيمانية من قصيدة "البردة"
توطئـــة:
قصيدة "البردة" أو "البرأة"، أو "الكواكب الدرية في مدح خير
البرية"، لناظمها البوصيري، من شعر المديح، المهتم بتعداد صفات الرسول
صلى الله عليه وسلم الخلقية والخلقية ، فالقصيدة نظم لسيرة الرسول صلى الله عليه
وسلم، وشوق لزيارته وجرد لمعجزاته، نالت
حظا وافرا من الانتشار عبر القرون.
البوصيري هو
شرف الدين بن سعيد بن حماد الصنهاجي، ولد بإحدى قرى صعيد مصر سنة 608 هجرية.
ويرجع أصله إلى قبيلة صنهاجة، إحدى قبائل أمازيغ جنوب المغرب.
أهمية القصيدة:
رواها عن
البوصيري علماء أجلاء من مختلف المذاهب الفقهية، كالإمام السيوطي، واعتنى بها
الشراح، حتى فاقت شروحها المائة، من أبرزها شرح الإمام محمد بن بهادر الزركشي ت794،
وشرح المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون ت 808، وشارح البخاري ابن حجر الهيثمي ت973.
اقتبس الشاعر
من القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، والسيرة النبوية العطرة، كما اقتبس من
القصص الإسلامي.
يقول الدكتور
زكي مبارك في شرحه للقصيدة: "البوصيري بهذه البردة، هو الأستاذ الأعظم
لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن
"البردة" تلقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير، غنيت بها لغة التخاطب،
وعن "البردة" عرفوا أبوابا من السيرة النبوية،وعن "البردة"
تلقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال. وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة
بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من
وسائل التقرب إ لى الله"
ورغم هذا
التلقي والاحتفاء بهذه القصيدة، فإنها لم تسلم من انتقادات، حيث أنكروا ٍعلى الناظم الغلو في مدح الرسول صلى
الله عليه وسلم.
انتشارها:
من أروع ما
نظم في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم فهي من أكثر قصائد المديح شهرة تلقاها الناس وعلماء مختلف
المذاهب بالقبول والثناء، لم يحظ نص شعري بما حظيت به من الاهتمام، فتنافس
الخطاطون في كتابتها على جدران المساجد، ودوام ناس من مختلف أقطار العالم على قراءتها
في المساجد وأنواع المناسبات، كما تبارى المنشدون في الابتهال بها.
ترجمت إلى
عدة لغات أجنبية، كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والتركية، وغيرها كثير.
فصول القصيدة:
تعتبر
القصيدة من المطولات الشعرية، اختلف في عدد أبياتها منهم من أوصلها إلى 182 بيتا،ومنهم
من جعلها 162 بيتا، صنفها البوصيري في عشرة أجزاء أساسية :
1ـ النسيب
النبوي
2ـ التحذير
من هوى النفس
3ـ مدح
الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
4ـ الحديث عن
مولده صلى الله عليه وسلم
5ـ الحديث عن
معجزاته صلى الله عليه وسلم
6ـ في شرف
القرآن الكريم
7ـ في الحديث
عن معجزة الإسراء والمعراج
8ـ في جهاد
الرسول صلى الله عليه وسلم
9ـ في التشفع
بالرسول صلى الله عليه وسلم
10ـ في
المناجاة والتضرع
وسنركز في هذه
المشاركة على الجزأين الأول والثاني:
استهل
البوصيري قصيدته بالنسيب النبوي على شكل أبيات غزلية، تبرز شوقه وحنينه إلى
الأراضي الطاهرة التي وطئها الرسول صلى الله عليه وسلم، مرددا أسماء أماكن حجازية
ونجدية، منها ذي سلم وكاظمة وإِضَم، مواضع يحن إليها قلب كل مسلم، والمقدمة تعبير
رمزي لحبه للرسول صلى الله عليه وسلم وشوقه لزيارته. حيث يتوجه الناظم إلى نفسه
مخاطبا إياها، مستفسرا عن أسباب دموعه المنهمرة، هل هو تذكر الأحبة وأماكنهم، أم
أن الرياح أتت ببعض عبيرهم، مثيرة بذلك الذكرى والشجن؟
ويمضي الناظم
واصفا حبه، وحنينه الذي لا يقو على إضماره، عن أعين اللائمين، بعدما شهدت به
مجموعة من القرائن والشهود، كإراقة الدمع على الأطلال واضطراب القلب فبعد هذه
الشهود لا يجد إنكار العشق والوجد. حينما يقول:
أمِن تذكر جيران بذي سَلَم
// مَزَجت دمعا جرى
من مقلة بدم
أم هبت الريح
من تلقاء كاظِمَة // وأَومض البرق في الظلماء من إِضَم
فما لعينيك
إن قلت اكفُفا هَمتا // وما لقلبك إن قلت استفق يهم
أيحسب الصب أن
الحب منكتم // ما بين منسجم منه ومضطرِم
لولا الهوى
لم تُرِق دمعا على طلل // ولا أَرِقت لذكر البان والعلم
فكيف تنكر حبا بعد ما شهدت // به عليك عدول الدمع والسقم
وأثبت الوجد
خطي عبرة وضنى // مثل البهار على خديك والعنم
نعم سرى طيف
من أهوى فأرقني // والحب يعترض اللذات بالألم
يا لائمي في
الهوى العذري معذرة // مني إليك ولو أنصفت لم تلم
عدتك حالي لا سري بمستتر // عن الوشاة ولا دائي بمنحسم
مَحضتني النصح
لكن لستُ أسمعه // إن المحب عن العُذال في
صَمَم
إني اتهمت
نَصيح الشيب في عَذل // والشيب أبعد في نصح عن التهم
ثم يسترسل
الشاعر في التحذير من هوى النفس في الفصل الموالي، متحدثا عن فساد نفسه وتقصيرها
في أداء الواجب، رغم أن الشيب غزا رأسه، إلا أنه لم يكف عن غيه، ويلوم نفسه لأنها
لم تستعد لاستقبال المشيب، بعدها يستفسر عن مُعين على كبح جماح النفس الأمارة
بالسوء؟ موصيا الراغب في النجاة بضرورة مخالفة هوى النفس قائلا:
فإن أمارتي بالسوء ما اتعظت
// من جهلها بنذير الشيب والهرم
ولا أَعَدت
من الفعل الجميل قِرى // ضيف ألم برأسي غير محتشم
من لي برد جماحٍ من
غوايتها // كما يرد جماح الخيل باللجم
فلا ترم
بالمعاصي كسر شهوتها // إن الطعام
يقوي شهوة النهم
والنفس
كالطفل إن تهمله شب على // حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هَواها وحاذر
أن تُوليَه // إن
الهوى ما تَولى يُصمِ أو يَصِمِ
وراعها وهي
في الأعمال سائِمة // وإن هي استحلت المرعى فلا تُسِم
كم حَسنت لذةً للمرء قاتِلة
// من حيث لم يدر أن السم في
الدسم
واخش الدسائس
من جوع ومن شبع // فرب مخمصة شر من التخم
واستفرِغ
الدمع من عين قد امتلأت // من المحارم والزَم حِمية الندم
وخالف النفس
والشيطان واعصهما // وإن هما مَحضاك النصح فاتهم
ولا تطع منهما خَصما
ولا حَكما //
فأنت تعرف كيد الخصم والحكم
أستغفر الله من
قول بلا عمل // لقد
نَسَبتُ
به نسلا لذي عُقُم
أمرتك الخير
لكن ما ائتمرت به // وما استقمت كما قولي لك
استقم
ولا تزودت قبل الموت نافلة
// ولم أصل سوى
فرض ولم أصم
ختاما لقد
جاءت البردة طافحة بمشاعر الصدق، والنفحات الإيمانية المحركة للوجد الإلهي، نالت
بذلك عظيم الشهرة والانتشار، رددتها القلوب والألسن بلغات يصعب عدها.
كما تبارى
المنشدون في إنشادها بشتى أنواع المقامات، بل وشخصت فصولها تشخيصا مسرحيا أيضا
زادها رقة ورونقا وجمالا.
المراجـــــع:
"المدائح النبوية في الأدب العربي" الدكتور زكي مبارك
قصيدة البردة للبوصيري: دراسة أدبية مجلة القسم العربي
قصيدة البردة للبوصيري: دراسة أدبية مجلة القسم العربي
لمزيد اطلاع في
مشاركات المدونة:
تعليقات
إرسال تعليق