درر من حديث ابن عباس: اِحفظ الله يحفظك
عن أبي العباس عبد الله، بن عباس، رضي الله
عنهما، قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "يا غلام، إني
أعلمك كلمات: اِحفظ الله يحفظك،
اِحفظ الله تجده تجاهك،
إذا سألت، فاسأل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله،
واعلم أن الأمة لو اجتمعت، على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك، إلا بشيء قد
كتبه الله تعالى لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء، قد كتبه
الله عليك،
رُفعت الأقلام، وجفت الصحف".أخرجه الإمام أحمد والترمذي
وفي رواية أخرى: "احفظ الله، تجده أمامك،
تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة،
واعلم أن ما أخطأك، لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن
النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا".
يشتمل هذا الحديث، على وصايا
عظيمة من أهم أمور الدين، وقد قال عنه ابن الجوزي: "تدبرت هذا الحديث، فأدهشني،
وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة التفهم لمعناه". جامع العلوم
والحكم، لابن رجب الحنبلي (ص462).
شرح الحديث:
قوله صلى الله عليه وسلم "اِحفظ الله":
معناه احفظ حدوده، وحقوقه، باتباع أوامره، واجتناب نواهيه. فمن فعل هذا، فهو من الحافظين لحدود الله، وكان من الذين مدحهم سبحانه، في كتابه الكريم: "هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب" ق الآية32 ،فالحفيظ هنا، هو الحافظ لأوامر الله، والحافظ لذنوبه، ليتوب منها.
ولا يمكن تحقق ذلك، إلا باستحضار مراقبة الله تعالى في كل عمل.
من أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله: الصلاة، قال سبحانه : "حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى" البقرة الآية 238، وقال صلى الله عليه وسلم عن
الحفاظ على الصلوات الخمس: "من حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله
الجنة" رواه النسائي وأبو داود.
ومما يؤمر بحفظه الأيمان، لقوله عز وجل: "واحفظوا أيمانكم"، فإن
الأيمان يقع الناس فيها كثيرا، ولا يحفظونها، ولا يلتزمون بما أوجبته تلك الأيمان.
وكذلك حفظ السمع والبصر واللسان، من المحرمات، وقد جمع الله ذلك كله في
قوله عز وجل: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً"
الإسراء 36.
قوله عليه الصلاة والسلام "يحفظك":
يعني أنه من وقف عند أوامر الله بالامتثال،
وعند نواهيه بالاجتناب، فحفظ حدود الله، وراعى حقوقه، حفظه الله، لأن الجزاء من
جنس العمل، فقد قال سبحانه:
"وأوفو بعهد أوف بعهدكم"
"اذكروني أذكركم"
"إن تنصروا الله ينصركم"
وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان من الحفظ:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه، وولده وأهله
وماله. كما يقول الله تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من
أمر الله".
ومن حَفِظ الله في صباه، وقوته، حفظه الله في حال كبره، وضعفه، ومتعه
بسمعه، وبصره، وحولِه وقوته. كان أحد العلماء، قد جاوز المائة
سنة، وهو ممتع بكامل صحته وعقله، فوثب يوما وثبة شديدة، فتم لومه على ذلك، فقال:
"هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر".
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه، بعد موته، ذريتَه، كما هو مبين في
الآية الكريمة: "وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز
لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن
يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك" الكهف الآية 82، أي أنهما
حُفظا بصلاح أبيهما.
وقد خاطب سعيد بن المسيب ابنَه قائلا: "لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء
أن أُحفظ فيك"، ثم تلا الآية: وكان أبوهما صالحا".
النوع الثاني من الحفظ: هو
حفظ الله للعبد في دينه، وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات،
ويحفظ عليه دينه، عند موته، فيتوفاه على الإيمان.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب رضي الله عنه، أن يقول
عند منامه: "باسمك ربي أضع جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي، فارحمها، وإن
أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين".
كما قال سبحانه في حق يوسف عليه السلام: "كذلك لنصرف عنه السوء
والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين".
وقال ابن عباس في قوله تعالى: "واعلموا أن الله يحول بين المرء
وقلبه" الأنفال الآية24: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره
إلى النار،
كما يحفظه في عثراته العابرات، بالعفو والغفران، ويكفر عنه سيئاته. وإذا
قضت حكمته تعالى، ابتلاءَه بشيء لطَف به، وأمده بالرضى والسكينة.
وقوله صلى الله عليه وسلم "احفظ الله تجده تجاهك":
أي تجد الله، في معونة الحافظ لحدوده، وفي
معيته، يحوطه بنصره وحفظه، "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"،
وهذه المعية الخاصة، هي المذكورة في قوله تعالى، لموسىى وهارون: "لا تخافا
إنني معكما أسمع وأرى".
وقول موسى: "كلا إن معي ربي سيهدين".
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وهما في الغار: "ما ظنك
باثنين الله ثالثهما، إن الله معنا". فهذه المعية، تقتضي النصر والتأييد،
والحفظ والإعانة.
"إذا سألت فاسأل الله"
أي التوجه إلى الله وحده بالدعاء، والطلب،
فالتعلق بعون الله عبادة.
"وإذا استعنت فاستعن بالله"
فالاستعانة لا تصح أن تكون إلا بالله وحده،
دون غيره، فذلك مظهر من مظاهر توحيد الله، وأثر من آثار الإيمان به عز وجل، الذي
بيده كل شيء، ولا بأس من طلب دعاء أهل الصلاح.
فالعبد عاجز عن الاستقلال بجلب المصلحة، فمن أعانه الله فهو المعان، وهذا
معنى "لا حول ولا قوة إلا بالله" أي لا تحول للعبد من حال إلى حال، ولا
قوة له، على ذلك.
ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيره، وكَلَه الله، إلى من استعان به،
فصار مخذولا.
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: "لا تستعن بغير الله فيكلك الله
إليه"
وفي الأثر: "يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك وعجبت لمن يعرفك كيف
يستعين بغيرك".
" واعلم أن الأمة لو اجتمعت، على
أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك، إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا غلى أن
يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء، قد كتبه الله عليك":
فما من شيء يحدث إلا بعلم الله، وأن الأمة
جميعا، لا يملكون قدرة على تغيير قضاء الله سبحانه.
وهذا مفهوم الآيات، في التسليم بالقضاء: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب
الله لنا"، "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى
مضاجعم" آل عمران الآية 154، فما من شيء يحدث إلا بعلم الله عز وجل.
غاية الأمر أن يُعبد من ينفع، يعطي ويمنع، ولذلك نهى الله أن نعبد الخلق
والأصنام، التي لا تنفع، فوجب إفراده سبحانه، بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال.
"رفعت
الأقلام وجفت الصحف":
يقول تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض
ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على
ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم" الحديد 22
أي أن المكتوب في اللوح المحفوظ واقع لا محالة، وفق علمه عز وجل.
قد يقول قائل كل شيء مقدر فلما العمل والجهد؟
جوابه كما قال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خُلق له".
والمهاجرون من الصحابة رضوان الله عليهم، أصيبوا في دنياهم، وأخرجوا من ديارهم،
وانتزعت منهم أموالهم، فرضوا بقضاء الله، وصبروا محتسبين، على الابتلاء، ولم
يمنعهم رضاهم بفقرهم، من أن ينهضوا طلبا للرزق، واسترجاعا لحال الغنى.
مثال آخر على رضاهم رضوان الله عليهم، بالقضاء واجتهادهم لتجاوز الظروف
الصعبة: رفض بعض الصحابة، دخول أرض الوباء، فرارا من قدر الله، إلى قدر الله.
فسعادة المؤمن، تتوقف على الرضا بالقضاء، مع الأخذ بالأسباب، ومحاسبة النفس
على التقصير، أما ما قد يبدو لنا مصابا ومحنةً، فكم من محنة في طياتها منحة،
ولربما منحا كثيرة.
فالرضا لا يعني الاستسلام للواقع، لأن الأخذ بالأسباب مطلوب شرعا، للانتقال
من قدر إلى آخر أفضل.
خلاصـــــة:
فمن عمل بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يسال غير الله، ولم يستعن إلا
به، وعلم أن ما أصابنا من سراء أو ضراء، مقدر في علم الله، تحققت له السعادة
القلبية، وسلمت صحته النفسية، وكذلك البدنية، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:
"احفظ الله يحفظك".
عناوين من المدونة للاطلاع:
تعليقات
إرسال تعليق