الصيام والمراقبة الذاتية:
ـ اغتنام النفحات الربانية
ـ كيفية تدريب الصيام على المراقبة
ـ آيات منبهة لرقابته عز وجل
ـ جوارحنا آلات تصوير، شاهد علينا يوم الحساب
ـ ما تجب فيه الرقابة
ـ نماذج من المراقبة
ـ من خطب الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان
اغتنام النفحات الربانية:
اللبيب هو المغتنم للفرص المستغل للمواسم، وهذا شهر
رمضان فكيف نجعل منه نقطة تغيير نحو الأفضل؟ إنه شهر الخيرات والبركات، والأجر
والثواب والهبات، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، أوله رحمة، وأوسطه
مغفرة، وآخره عتق من النار، نَزل فيه القرآن، وتُصفد فيه الشياطين، يختار الله فيه
عبادا فيعتقهم من النار، اللهم اجعلنا منهم يا كريم.
من أرقى
أنواع المراقبة، المراقبة الذاتية، مراقبة الضمير، أي أن يكون الإنسان مراقبا
لنفسه، رقيبا عليها، دون أن يكون داع لأن يقف شخص آخر ليراقب أعماله، وهذا ما قصد
الإسلام غرسَه في النفوس، باستشعار وجود الله عز وجل في كل لحظة، واطلاعه على ما
نخفي وما نعلن.
فالإخلاص
مرتبط بالرقابة الذاتية، ولعل أعلى مراتب الإيمان، أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم
تكن تراه فإنه يراك.
وقد قيل:
خَفِ الله على قدر قُدرته عليك، واستحيِ من الله على قدر قربه منك.
كيفية تدريب الصيام على المراقبة:
المطلوب لتؤتي الفريضة ثمارها، أن يتحول هذا الدور
الرقابي من إطار الاعتياد، إلى إطار الملاحظة والوعي، فالصائم يمتنع لا شعوريا عن
المفطرات، دون أن يفكر بقدرته أيضا على الامتناع عن ممنوعات أخرى في غير الصيام،
فملكة التحكم بالإرادة واحدة لدى الإنسان، ويمكن أن تُنمى هذه القدرة وتنمو،
فالصائم بصومه يُدين نفسه، ويُقيم الحجة على اعتذاره عن التقصير في شؤونه الأخرى
الدينية والدنيوية. وهذه حال الصائم الذي يمتنع عما يشتهيه مما هو حلال، ويقترف ما
هو محرم عليه، نتيجة عدم تفعيل المراقبة الذاتية، إلا أن القدرة على الصيام
المُفعل لهذه المراقبة، لدليل على بعث الأمل للرفع من مدى الرقابة الذاتية.
إن المؤمن الحق من ترك مباحا طاعة لله، وسيترك
ما هو محرم عليه من باب أولى.
فأهمية
الرقابة هي ما جعلت من الصيام نفحة ربانية، لمضاعفة الأجر كما ورد في الحديث
القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به"، لأن
الأعمال الأخرى غير الصيام، بارزة، يستطيع فاعلها أن يرائي بها الناس، كالصلاة
والحج، بخلاف الصوم فإنه بين الصائم وربه، لأنه عبادة غير ظاهرة. فعماد الرقابة
الذاتية، دليل على إخلاص العباد لله لا رياء ولا إشراك.
آيات منبهة إلى رقابته سبحانه:
قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه: "إن الله كان
عليكم رقيبا" النساء:1، ومن حِكم الكلام: إذا كان سيدي رقيبا علي فلا أبالي
بغيره، ومراقبة الله أفضل الطاعات.
"ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" ق:18، يجد
الإنسان نفسه مكشوفة لا يحجبها ستر، وكل ما فيها من وساوس خافية معلوم لله.
ولو استحضرنا
ذلك، ما جرؤنا على كلمة لا ترضي الله، وهذا ما يدعونا لأن نعيش في حذر وخشية
ومحاسبة ومراقبة.
ويُمعن القرآن الكريم في إبراز الرقابة ودِقتها، بوجود
ملكين عن اليمين وعن الشمال، يسجلان كل حركة وكل كلمة فور وقوعها، "ولقد
خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، إذ يتلقى
المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد" ق:16ـ17 ، والقعيد معناه الملازم
للإنسان لتدوين أعماله ورصدها.
إذن علينا أن ننتبه لكل كلمة قبل إخراجها، "إن
الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتُب الله بها
رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخطِ الله، ما كان يظن أن
تبلغ ما بلغت، يكتب الله بها سخطَه إلى يوم يلقاه" رواه الإمام أحمد عن بلال
بن الحارث. فكان علقمة يقول: "كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن
الحارث".
كما يقول سبحانه وتعالى:"قل إن تخفوا ما في صدوركم
أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير يوم
تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا
بعيدا و يحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد" آل عمران 29/30.
وفي حديث جبريل "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ومن كمال قدرته وعلمه تعالى، أن جعل أعضاء الإنسان تسجل
عليه أعماله التي يباشرها بتلك الأعضاء، فإذا جاء وقت الجزاء والحساب، شهدت عليه
بكل ما اقترفت، وأين يفر الإنسان من جلده وسمعه وبصره ويده ورجله، وهي تلازمه في
كل مكان.
إن
جوارح الإنسان آلات تصويرـ كامرات ـ تصور حركاته بالليل والنهار، في الضوء وفي
الظلمة، في السر والعلن، وهي كذلك آلات تسجيل ـ كاسيط ـ تسجل أصواته لتحتفظ بها،
فتفاجئه بما لم يكن يتوقع من شهادتها عليه، قال تعالى: "ويوم يُحشر أعداء
الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم
بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل
شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا
أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون وذلكم ظنكم الذي
ظننتم بربكم فأصبحتم من الخاسرين"
فصلت: 21ـ22ـ23.
قال صلى الله عليه وسلم لرجل طلب منه أن يوصيه:
"احفظ لسانك"، ثم قال أوصني فقال: "احفظ لسانك" ثم قال أوصني،
فقال صلى الله عليه وسلم: "ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا
حصائد ألسنتهم"رواه الترمذي.
سأل أحد الصحابة ما النجاة؟ أجابه الرسول صلى الله عليه
وسلم :"أَملِك عليك لسانك"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أكثر
الناس ذنوبا يوم القيامة أكثرهم كلاما في ما لا يعنيه" رواه أبو هريرة.
وقال علي رضي
الله عنه: "ما من شيء أحق بطول السجن من اللسان".
أمثلة في المراقبة:
ـ كان لبعض المشايخ تلميذ شاب وكان يقدمه ويكرمه، فقال
أحد أصحابه لم تكرم الشاب ونحن شيوخ؟ فدعا بعدة طيور وناول كل واحد منهم طائرا
وسكينا، وقال ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد، ودفع إلى الشاب مثل
ذلك، وقال له كما قال لهم، فرجع كل واحد بطائره مذبوحا، ورجع الشاب والطائر حي في
يده، فقال ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك، فقال لم أجد موضعا لا يراني فيه أحد، إذ
الله مطلع علي في كل مكان. فاستحسنوا منه هذه المراقبة وقالوا : حُق لك أن تُكرم.
ـ مما ورد في المراقبة أيضا أن رجلا كان يمشي في صحراء
مع امرأة وليس معهما أحد، فراودها عن نفسها فقالت له: أما تستحيي؟ فقال: ممن، ولا
يرانا إلا الكواكب؟ فقالت له فأين مُكَوكِبها" هذه امرأة عندها ملكة
المراقبة.
ـ قصة راعي الغنم مع عمر بن الخطاب الذي أعتقه فقال له:
لقد أعتقتك هذه الكلمة في الدنيا وأرجو أن تعتقك في الآخرة، ومفادها كما يقول عبد
الله بن دينار: "خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى مكة، فانحدر علينا راع من
الجبل، فقال ابن عمر: أراع؟ قال: نعم، قال: بِعني شاة من هذه الغنم، قال: إني
مملوك، ثم أراد ابن عمر أن يختبر أمانة هذا المملوك فقال: قل لصاحبها: أكلها
الذئب. قال الراعي المستشعر لرقابة الله بعد أن رفع رأسه إلى السماء: فأين الله؟
فبكى ابن عمر، ثم غدا غلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه، وقال له: أعتقتك هذه
الكلمة في الدنيا وأرجو أن تعتقك في الآخرة"
ـ قصة غش الحليب لأم مع ابنتها، حيث دار حوار استوقف
أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب، حينما كان يتفقد أحوال المسلمين بليل، فسمع أما
تخاطب ابنتها: يا بنتي امزجي اللبن بالماء، فأجابت البنت، إن أمير المؤمنين عمر قد
منع مزج اللبن بالماء، فقالت الأم في لحظة غفلة عن الله: إن أمير المؤمنين الآن لا
يرانا، ولكن البنت المستشعرة لرقابة الله التي ملكت شغاف قلبها تقول: "يا
أماه ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، إن لم يكن عمر يرانا فإن الله
يرانا".
ما تجب فيه المراقبة:
ـ غض البصر وعفه عن الاتساع في النظر، فـفي الحديث
القدسي: "النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، مَن تركها من مخافتي، أبدلته
إيمانا يجد حلاوته في قلبه" أخرجه الحاكم والطبراني.
ـ حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، والفحش
والخصومة، وإلزامه الصمت، وشغله بذكر الله وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان
"الصيام جُنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن
امرؤ قاتله أو شاتمه، فليقل: إني صائم".
ـ كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه "سماعون للكذب
أكالون للسحت" المائدة: 42.
ـ كف بقية الجوارح عن الآثام قال صلى الله عليه وسلم:
"كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ" فقيل: هو يفطر على
الحرام، وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال، ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو
حرام، وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام.
ـ أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا مضطربا بين الخوف
والرجاء، إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين، أو يرد عليه فهو من المبعدين،
وليكن كذلك في كل عبادة يفرغ منها.
ـ مراقبته سبحانه في كل الأمانات.
لعل خير ما
نختم به خطبة نبينا صلى الله عليه وسلم في الحث على
اغتنام الشهر الفضيل، وتندرج في باب الترغيب مما رواه البيهقي في "شعب
الإيمان":
"أيها
الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة شهر هو عند الله أفضل
الشهور وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، وهو شهر
دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح
ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات
صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه،فإن الشقي من حرم غفران الله في
هذا الشهر العظيم.
اذكروا
بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة، وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا
كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر
إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس،
يُتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم،وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات
صلواتكم، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده، ويجيبهم
إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه.
أيها الناس
إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا
عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله عز وجل أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين
والساجدين، وأن لا يروعهم يوم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أيها الناس من فطر منكم صائما مؤمنا في
هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه، فقيل يا رسول
الله، وليس كلنا نقدر على ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله ولو بشق
تمرة، اتقوا الله ولو بشربة ماء".
أيها الناس من حَسن منكم في هذا الشهر
خُلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام".
تقبل الله صيامكم
وقيامكم وصالح أعمالكم
تعليقات
إرسال تعليق